فصل: تفسير الآيات (41- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (20- 24):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [20- 24].
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} أي: كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتّى. فإن ترتيب النظر على السير في الأرض، مؤذي يتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} أي: الخلق الآخر: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أي: بعد النشأة الثانية، وهم المنكرون لها: {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} وهم المؤمنون بها: {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي: بالتواري في الأرض، ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها، لو استطعتم الرقيّ فيها. أو القلاع الذاهبة فيها. فيكون المراد بالسماء ما ارتفع. وقيل: المعنى: ولا من في السماء، فحذف اسم الموصول وهو مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير: ولا من في السماء بمعجزه، والجملة معطوفة على جملة أنتم بمعجزين وفيه تكلف وضعف صناعي: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي: يدافع عنكم ما يراد بكم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم أشار تعالى إلى ما أجاب به قوم إبراهيم، بعد دعوته إياهم وعظاته البالغة، بقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

.تفسير الآيات (25- 29):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [25- 29].
{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي تتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباعُ المتبوعين، والمتبوعون الأتباعَ. كما قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38]، وقال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
تنبيه:
قال السمين: في ما من قوله تعالى: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف، وهو المفعول الأول و{أَوْثَاناً} مفعول ثان. والخبر {مودة} في قراءة من رفع. والتقدير: إن الذي اتخذتموه أوثاناً مودة، أي: ذو مودة، أو جعل نفس المودة مبالغة. ومحذوف على قراءة من نصب {مودة} أي: الذي اتخذتموه أوثاناً لأجل المودة لا ينفعكم، أو يكون عليكم، لدلالة قوله: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ}.
والثاني: أن تجعل ما كافة، وأوثاناً مفعول به. والاتخاذ هاهنا متعد لواحد. أو لاثنين، والثاني هو من دون الله فمن رفع مودة كانت خبر مبتدأ مضمر، أي: هي مودة أي: ذات مودة. أو جعلت نفس المودة مبالغة. والجملة حينئذ صفة لأوثاناً أو مستأنفة. ومن نصب كان مفعولاً له، أو بإضمار أعني.
الثالث: أن تجعل ما مصدرية، وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول. أي: أن سبب اتخاذكم أوثاناً مودة، فيمن رفع مودة ويجوز أن لا يقدر، بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة. ومن القراء من رفع مودة غير منونة وجرّ بينكم ومنهم من نصب مودة منوّنة ونصب بينكم ومنهم من نصب مودة منونة وجرّ بينكم. فالرفع تقدم. والنصب تقدم أيضاً فيه وجهان. وجوّز ثالث، وهو أن يجعل مفعولاً ثانياً عن المبالغة والإضافة، للاتساع في الظرف.
ونقل عن عاصم أنه رفع مودة غير منونة ونصب بينكم وخرجت على إضافة مودة للظرف. وإنما بني لإضافته إلى غير متمكن.
وأشار العلامة القاشاني إلى جواز أن يكون قوله تعالى: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} خبراً لما إن كانت اسمية. وهو وجه لم يتعرض له المعْرِبُون هنا، ولا مانع منه. وعبارته:
إنما اتخذتم من دون الله، شيئاً عبدتموه مودوداً فيما بينكم في الحياة الدنيا أو: إن كل ما اتخذتم من دون الله، شيئاً مودوداً فيما بينكم في الحياة الدنيا، أو: إن كل ما اتخذتم أوثاناً مودود في هذه الحياة الدنيا. أو لمودة بينكم في هذه، على القراءتين.
ثم قال: والمعنى أن المودة قسمان: مودة دنيوية، ومودة أخروية. والدنيوية منشؤها النفس، والأخروية منشؤها الروح. فكل ما يحب ويودّ من دون الله، لا لله ولا بمحبة الله، فهو محبوب بالمودة النفسية. وهو هوى زائل، كلما انقطعت الوصلة البدينة زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات، فإنها نشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج. فإذا انحلّ التركيب وانحرف المزاج، تلاشت وبقي التضادّ والتعاند، بمقتضى الطبائع، لقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} الآية. ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن.
وأما الأخروية فمنشؤها المحبة الإلهية. وتلك المودة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء، لتناسب الصفات، وتجانس الذوات، لا تتصفى غاية الصفاء إلا عند زوال التركيب. فيصير يوم القيامة محبة صرفة الهيئة، بخلاف تلك. انتهى.
{فَآمَنَ لَهُ} أي: صدق إبراهيم فيما دعاه إليه: {لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ} أي: من أرض قومي: {إِلَى رَبِّي} أي: لا إلى غيره بل إلى عبادته وإقامة شعائر دينه والقيام بدعوة الخلق إلى الحق من شرعه وتوحيده: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ} أي: لإبراهيم: {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي: ولداً ونافلة، بمباركة الذرية: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} أي: بإيتاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملك إليه والثناء إلى آخر الدهر والصلاة عليه: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} أي: الفعلة المتناهية في القبح: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} أي: لتحاشي الطباع عنها. ثم فصلها بعد الإجمال، لزيادة تنفير النفوس منها: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} أي: سبيل النسل بإتيان ما ليس بحرث. أو بعمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} أي: ما لا يليق من الأقوال والأفعال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.

.تفسير الآيات (30- 33):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [30- 33].
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} أي: الذين يفسدون كل برهان عقلي ونقلي، وكل حكمة إلهية: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} أي: بالبشارة بالولد والنافلة، وهم الملائكة. بعثوا لنصر لوط وتبشيره بهلاك قومه: {قَالُوا} أي: لإبراهيم عليه السلام: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} أي: قرية سدوم: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} أي: بتنزيلهم الرجال منزلة النساء، وقطع السبل، وفعل المنكر وترك المعروف: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: الباقين في العذاب أو القرية: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا} أي: المذكورون بعد مفارقتهم لإبراهيم عليه السلام: {لُوطاً سِيءَ بِهِمْ} أي: اعترته المساءة بسببهم مخافة أن يقصدوهم: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي: ضاق بشأن ذرعه، أي: طاقته: {وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} أي: مما يصيبهم من العذاب: {إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}.

.تفسير الآيات (34- 38):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [34- 38].
{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ} أي: عذابا عظيما من جهتها: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يعني قصتها العجيبة، أو آثارها الخربة: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} أي: توقعوه، وما سيقع فيه من فنون الأهوال: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي: بالبغي على أهلها، كنقص المكيال والميزان، وقطع الطريق على الناس، فإن عاقبة ذلك الدمار: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي: الصيحة التي هي منشأ الزلزلة الشديدة: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} أي: بلدهم أو منازلهم: {جَاثِمِينَ} أي: هلكى ميتين: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} أي: عقلاء متمكنين من النظر والافتكار بواسطة الرسل عليهم السلام، فإنهم أوضحوا السبل، فلم يكن لهم في ذلك عذر، ولكنهم لم يفعلوا، عناداً وكبراً.

.تفسير الآيات (39- 40):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [39- 40].
{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} أي: فائتين الله سبحانه. بل لحقهم عذابه فدمرهم تدميراً. ولذا قال: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} أي: ريحاً عاصفاً، فيها حصاء، وهم قوم لوط: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} كمدين وثمود: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} كقارون: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} كقوم نوح وفرعون وقومه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: يفعل ما يوجب ذلك، من البغي والفساد.

.تفسير الآيات (41- 44):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [41- 44].
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} أي: تعتمد على قوته وتظنه محيطاً بها، دافعاً عنها الحرّ والبرد: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} أي: أضعفها: {لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} أي: لأنه لا يحتمل مسّ أدنى الحيوانات وأضعف الرياح. ولا يدفع شيئاً من الحرّ والبرد. وهذا مثلهم: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: شيئاً ما. أو إن أولياءهم أوهى من ذلك ثم الغرض من التشبيه هو تقرير وهن دينهم، وإنه بلغ الغاية فيه، وهو إما تشبيه مركب من الهيئة المنتزعة، فمدار قطب التمثيل على أن أولياءهم بمنزلة نسج العنكبوت في ضعف الحال وعدم الصلاحية للاعتماد. وعلى هذا فقوله: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} تذييل يعرّف الغرض من التشبيه. وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} إيغال في تجهيلهم. لأنهم لا يعلمونه مع وضوحه لدى من له أدنى مسكة. وإما أن يكون من تشبيه المفرد، لأن المقصود بيان حال العابد والمعبود. وفي الآية لطائف بيانية ذكرت في المطولات. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} بالياء والتاء في تدعون قراءتان. وما إما استفهامية منصوبة بيدعون ومن الثانية للتبيين. أو نافية ومن مزيدة. وشيء مفعول تدعون أو مصدرية بمعنى الدعوة وشيء مصدر بمعناه أيضاً. أو موصولة مفعول ليعلم ومفعول يدعون عائده المحذوف. والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل. وعلى الآخرين وعيد لهم. أفاده القاضي: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} يعني هذا المثل ونظائره في التنزيل: {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي: ليقرب ما بعد من أفهامهم. فإن الأمثال والتشبيهات طرق تبرز فيها المعاني المحتجبة للأفهام: {وَمَا يَعْقِلُهَا} أي: يدرك حسنها وفوائدها: {إِلَّا الْعَالِمُونَ} أي: الراسخون في العلم الكاملون فيه. وعن عَمْرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها، إلا أحزنني. لأني سمعت الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي: محقّاً مراعياً للحكم والمصالح، مقدساً عن أن يقصد به باطلاً. فالباء للملابسة، والجار والمجرور حال. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}.

.تفسير الآيات (45- 46):

القول في تأويل قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [45- 46].
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} أي: تقرباً إلى الله تعالى بقراءته، وتحفظاً لألفاظه، واستكثاراً لما في تضاعيفه من المعاني. فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وتذكيراً للناس، وحملاً لهم على العمل بما فيه، من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي: تكون سبباً للانتهاء عن ذلك. ففيه تجوز في الإسناد.
فإن قلت: كم من مصلّ يرتكب ولا تنهاه صلاته! قلت: الصلاة التي هي الصلاة عند الله، المستحق بها الثواب، أن يدخل فيها مقدماً للتوبة النصوح متقياً، لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح. ثم يحوطها بعد أن يصليها، فلا يحبطها، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من لم تأمره صلاته بالمعروف، وتنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً.
عن الحسن رحمه الله: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه. أفاده الزمخشري. وقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} قال الزمخشري: أي: وَلَلصلاةُ أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله، كما قال: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وإنما قال: ولذكر الله ليستقل بالتعليل. كأنه قال: وللصَلَاةٌ أكبر، لأنها ذكر الله. أو: ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما، أكبر. فكان أولى بأن يَنْهَى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، ولذكر الله إياكم برحمته، أكبر من ذكركم إياه بطاعته. انتهى. فذكر على الأولين مصدر مضاف للمفعول. وعلى ما بعدهما مضاف للفاعل، والمفعول محذوف. والمفضل عليه في الأولين غيره من الطاعات. وفي الأخير قوله: من ذكركم.
وقال الرازيّ: لما ذكر تعالى أمرين، وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة، بيّن ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم، فقال: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وأنتم إذا ذكرتم آبائكم بما فيهم من الصفات الحسنة، تنبشّون لذلك وتذكرونهم بملء أفواهكم وقلوبكم. لكن ذكر الله أكبر، فينبغي أن يكون على أبلغ وجه التعظيم. أما الصلاة فكذلك. لأن الله يعلم ما تصنعون. وهذا أحسن صنعكم. فينبغي أن يكون على وجه التعظيم. وفي قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} مع حذف بيان ما هو أكبر منه، لطيفة. وهي أن الله لم يقل: أكبر من ذكر فلان، لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة. إذ لا يقال الجبل أكبر من خردلة وإنما يقال: هذا الجبل أكبر من هذا الجبل. فأسقط المنسوب كأنه قال: ولذكر الله له الكبر لا لغيره، وهذا كما يقال في الصلاة: الله أكبر أي: له الكبر لا لغيره. انتهى.
ولما بيّن تعالى طريقة إرشاد المشركين، ونفع من انتفع، وحصول اليأس ممن امتنع، بيّن طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: بالخصلة التي هي أحسن. وهي اللين والأناة: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي: بالاعتداء، بأن أفحشوا في المقال وأقذعوا في الجدال، فلا حرج في مقابلتهم بالعنف، لتنكبهم عن جادة اللطف. وهذا كما قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وهذه الآية أصل في آداب المناظرة والجدل: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: مطيعون له خاصة. وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
قال ابن كثير: يعني إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه، فهذا لا يقدم على تكذيبه، لأنه قد يكون حقاً. ولا على تصديقه، فلعله أن يكون باطلاً. ولكن يؤمن به إيماناً مجملاً معلقاً على شرط. وهو أن يكون منزلاً، لا مبدلاً مؤوّلاً. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم. وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون». وهذا الحديث تفرد به البخاري.
وروى الإمام أحمد عن أبي نملة الأنصاري مرفوعاً: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم. وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله. فإن كان حقّاً لم تكذبوهم، وإن كان باطلاً لم تصدقوهم». ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان. لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل. وما أقل الصدق فيه. ثم ما أقل فائدة كثير منه، لو كان صحيحاً.
روى البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث. تقرؤونه محضاً لم يُشَبْ. وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيّروا، وكتبوا بأيدهم الكتاب، وقالوا: هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا، والله! ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
وقال البخاري: وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري. أخبرني حميد ابن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة. وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب. وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد. لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة. لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة. ومع ذلك. وقرب العهد، وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة، لا يعلمها إلا الله عز وجل. ومن منحه الله علماً علم بذلك كل بحسبه. ولله الحمد والمنة. انتهى.